مكتبة الفكر: كل ما تحلم به، بين يديك

ظلال على النافذة

غائب طعمة فرمان
دار المدى

66.00د.م.

تأفف العم عبد الواحد ، ومدّ يده وتناول علبة السيكائر من على الأرض ، وأشعل سيكارة ، وملأ صدره بدخانها الجاف ، تنحنح ونظف صدره ، وأحس بأنه ينفث مع الدخان هماً ملبدا في صدره ، وسُمّاً كان يسري في روحه ، حتى أحسّ براحة خاطفة ، عندما خفف الثقل الذي يجثم عليه ، وغاب عن الدنيا وهمومها في لحظة من السهوم والنسيان ، فتصور أن حسيبة ما تزال في البيت لم تغادره ، وأن ذلك مجرد وهم ، وسوء ظن ، كما امتلأ قلبه منها في الأسابيع القليلة الماضية من رعونة وعدم اكتراث وتجاهل للمصيبة التي هي فيها . . . أو ربما خرجت حقاً ، وقد عادت الآن ، ووقعت على رأس عمتها لثماً وتقبيلاً ، مبللة إياه بدموع الندم والحسرة ، قائلة : ” عمة ! كنت متضايقة فخرجت أشم الهواء وتهت في الدروب . بغداد القديمة تهدمت ، ولم يبق منها غير خرائب ، وبغداد الجديدة شوارع يتيه فيها الناس ، وداخ رأسي ، وشعرت وكأنني في ولاية أخرى ” . وللحظة يصدق عبد الواحد بهذا الهاجس ، ويعطيها العذر .
صحيح ! يقول لنفسه . بغداد العتيقة صارت منخلاً ، خرائب بابل . وأنا ، في هذا العمر أحس أحياناً بأن رأسي يدور مثل البروانة ! ! ويتخذ تفكير عبد الواحد مساراً آخر ، لعلها حنت إلى بيتها القديم حقاً . كم مرة حنّ هو الآخر إلى بيته القديم ، البيت الذي تربى فيه ، وتزوج ، وأنجب ، وزرع سني عمره في أرضه المتربة . رغم إنه يقضي سحابة نهاره في حي لا يختلف شخطة واحدة عن حبه السابق . فكيف هي التي لم تخرج مرة واحدة خلال ثلاثة أعوام ؟ ثم يعود فيقول لنفسه : ولكن إلى أي شيء نحن ؟ إلى خرابة ؟ حتى الخرابة يمكن أن تحن إليها ، إذا تركت عزيزاً فيها . ولكن أي عزيز تركت حسيبة ؟ تركت . . . تركت عمتها . . أو تلك التي تسميها عمة . كل شيء جائز في هذه الدنيا ، ربما رغرغت روحها بعد هذه السنين الطويلة, ركبها الشوق إلى حياتها الأولى مثلما يركب جني انسانا ، وخرجت لشمة هوا . كل إنسان تمر فيه أوقات يريد أن يتخلى فيها عن كل شيء ، يهجر كل شيء ، يهرب حتى من جلده ، ليبقى هو ونفسه وجهاً لوجه . خرجت حسيبة من بيت عمّها ، وعبرت الشارع المقابل للبيت، وسارت في شارع مجاور. ودمدمت مع نفسها ، وأخذتها العرامة والضيق او تنفست رائحة زمان ، ونسيت البيت والزوج, العم والعمة, ونفسها ايضا, تاهت في شوارع بغداد, كل شارع بعرض النهر.
عادة يشحن خلال يومين أو ثلاث.

Additional information

المؤلف

الناشر

Reviews

There are no reviews yet.

Be the first to review “ظلال على النافذة”

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    سلة المشتريات